مخلوق اسمه المرأة

في مواجهة الاعتراضات والمناقشات المستجدة حول الاختلاط يثور تساؤل ما عن أهمية وتوقيت هذا الأمر، على رغم كونه حادثاً وحتمياً أحياناً في الكثير من مرافقنا الاجتماعية ولو بصورة محدودة ومن دون مشكلات تذكر، أخيراً مثلاً قمت ووالدتي بزيارة قسم الطوارئ في مستشفى خاص بجدة واستقبلتنا ممرضة سعودية كانت تقوم على رعاية عدد من المرضى هناك رجالاً ونساءً، وقامت سيدة سعودية أخرى بنقل والدتي على الكرسي المتحرك من قســم لآخــر كمـا قامت بنقل مرضى آخرين، وانتظرنا دورنا في النهاية في صيدلية المستشفى التي يعمل فيها عدد من الموظفين من الجنسين جنباً إلى جنب مع المرضى الرجال، ولم تحدث أي كوارث كبرى، والاختلاط الحادث في المستشفى يمكن تعميمه في مجتمع محافظ كمجتمعنا، يحرص أفراده على الآداب العامة، ونساؤه على الاحتشام، وتوجد فيه بصفة فريدة من بين كل المجتمعات الإنسانية الأخرى هيـئـة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولمراقبة الأخلاق في الأماكن العامة، وعـلى رغــم ذلك تثـار اعتـراضــات كثيرة حول الاختلاط وكأن المرأة مخلوق هبط هنا فجأة ولا ندري أين نضعه.

المقاومة الاجتماعية للتغيير والتطوير هنا تتمثل في رفض أي جديد ومختلف، وتظهر هنا في علامات الاعتراض على ظواهر حديثة في مجتمعاتنا تفرضها حتمية التطور والتمدن هنا، كالتعليم المختلط في المراحل العليا أو الدنيا أو حضور النساء على رغم التزامهن بالزي المحتشم في الأماكن العامة كمجالات العمل المختلطة وفي قيادة النساء للسيارة وغيرها، وهي محاولات يقودها في الغالب بعض الجماعات التقليدية الأكثر انغلاقاً وارتباطاً بالماضي في المجتمع السعودي، ولا يوجد ما يشرح ذلك الرفض كواقع وليس افتراضات في أذهان المتخوفين، على رغم فائدة التطوير والتغيير لمصالح الناس عموماً ولمصالح النساء خصوصاً، وأهمها تحويل النساء من عبء على ذكور العائلة إلى أفراد مستقلين في الحياة وقادرين على العيش بكرامة، وعلى رغم كون السعوديين والسعوديات يمارسون في لحظات وبمجرد انتقالهم خارج البلاد، وبسبب طبيعة الحياة المفروضة عليهم هناك، كل مظاهر الحياة الحديثة التي تتضمن الاختلاط بلا أي مشكلات تذكر، فالاختلاط جزء من الممارسة الحياتية العامة هناك في التعليم والعمل والترفيه والتسوق والعلاج، ولم يسبب ذلك لمعظم من في الخارج أي مشكلة في السلوك أو التأقلم، إذ توجد القوانين الرسمية الكفيلة بتحقيق الأمن والحماية للجميع.

ويقدم ويليام سمنر – أول من مارس تدريس علم الاجتماع في الجامعات – في نظريته «التراثيات» أو «فولكواي» التي أطلقها في القرن الـ19 شرح وتعريف بمظاهر العرف والتقاليد في المجتمعات المختلفة، فيعرف المتعارف عليه من التقاليد الاجتماعية بأنه مبادئ التصرفات التي يرجع إليها الناس للتعريف بكيفية الاستجابة المتوقعة في كل ظرف، وقسم «سمنر» هذه الأعراف إلى ثلاثة أقسام، فهناك التقاليد المتوارثة التي يطبقها المجتمع بصورة ضعيفة ولا تحكمها القوانين العامة كطريقة ارتداء الزي مثلاً أو التصرفات السلوكية المتوقعة في الاجتماعات مثلاً، وهناك أخلاقيات المجتمع ومبادئه وهي تلك الأعراف القوية التي يطبقها المجتمع بحرص ويعاقب من يخالفها، وهي الأهم في هذا النقاش كقوانين الزواج والطلاق وعــلاقات أفراد المجتمع مثلاً، وهناك القوانين التي يضعها المشرع السياسي في المجتمع والمنبثقة من قيمه الخاصة كعقوبات المخالفات المدنية والخاصة مثلاً.

يعلل «سمنر» سبب ظهور اختلافات واضحة بين المجتمعات في أعرافها الخاصة بأقسامها الثلاثة في كون الظروف الاجتماعية والحياتية التي نشأت فيها تلك المجتمعات مختلفة مما حتمت نشوء تلك الأعراف المختلفة في كل مجتمع، فما هو مهم في مجتمع ما ليس من الأهمية بمكان في غيره، وعليه فلم يستدع ظهور تقاليد وأعراف خاصة بالتعامل معه، ويعزو سمنر سبب التزام الأفراد في مجتمع ما بتطبيق تلك الأعراف ومن ثم استمرارها في الممارسة في الأجيال التابعة لهم لأربعة أسباب رئيسة هي: التلقين بسبب مرجعية دينية أو سياسية، أو الاعتياد بسبب تكرار الممارسة، أو مناسبة السلوك للتطبيق، إذ يصبح السلوك العرفي المعتاد هو الأكثر توقعاً والأسهل تعاملاً بالتالي بين الأفراد، والرغبة من الفرد في كسب تقبل المجتمع بتطبيق السلوك المتوقع والمتعارف عليه.

وفي مسألة عدم الاختلاط يتضح أن من يقودها هم في الغالب بعض قيادات التيار الديني الذي يجد مرجعاً دينياً ما يلقنه للمجتمع جيلاً بعد جيل ولو من باب سد الذرائع، ويصبح بعدها واقع الفصل التام بين الجنسين في نواحي الحياة المختلفة واقعاً معتاداً في الحياة العامة يثير معه المختلف كوجود سيدة في مهنة ذكورية – كرئاسة تحرير صحيفة ما أو العمل في نقاط البيع مثلاً – رفض وعدم توقع المجتمع لتطبيقها، كما تتناسب الفكرة بعدها مع العرف الاجتماعي فيصبح المتوقع دائماً هو أن يتعامل الذكور والإناث كلٌ مع جنسه، ويصبح تعامل الرجل مع المرأة والعكس أكثر صعوبة وحرجاً للطرفين، ويصبح من ينادي بالفصل بين الجنسين ويمارسه في مجتمعه متقبلاً بصورة أكبر ممن يعارضه.

لا يرى «سمنر» أي دور للقيادة السياسية في التغيير الاجتماعي، ويؤكد أن الدور السياسي غالباً ما يحظى بالفشل في مواجهة الأعراف والقيم الثقافية المتوارثة التي تحتاج إلى وعي اجتماعي مشترك يشبه ذلك الذي تراكم على مدار السنين لإلغائها وإبدالها بوعي جديد. وبما أن رجال الدين هم المتصدرون غالباً في مجتمعاتنا لمختلف القضايا الاجتماعية، والحاضرون بقوة للتأثير على الجميع، بمن فيهم النشء، من خلال التعليم والمسجد والإعلام المرئي والمقروء، فأي تغيير للنظم والأعراف الاجتماعية لا بد أن يبدأ من خلالهم وبواسطتهم، وبالتالي يصبح خطر التهاون في إعداد رجال الدين بقصر معارفهم وعلومهم على التعليم الديني فقط هو كارثة حقيقية لمجتمعاتنا، فمن دون تعريف رجال الدين بعلوم الاجتماع والاقتصاد والثقافات والفلسفات الإنسانية العامة لن نشهد تغييراً حقيقياً في أساليبهم يشجع التطوير المرجو على مستوى المجتمع، وربما ينتهي الحال بجمود الخطاب الديني هنا إلى انصراف الناس عنه بالجملة بسبب عدم مناسبته للمستجدات التي تفرضها تطورات الحياة.

الرفض فقط في مسائل خلافية كالاختلاط وغيره من دون أن ينظر في تقنين التعامل معها سيفضي بالكثيرين إلى رفض دور ممثلي التيار الديني بذاته، وفي توافق لما توصل إليه «سمنر» حول دور القرار السياسي في التغيير، فالصورة المنشورة لأولي الأمر هنا مع سيدات سعوديات فاضلات أخيراً لم تطفئ بعد الجدل القائم حول «الاختلاط».

على رغم اعتزاز النساء هنا بالقيادة السياسية الراشدة التي تثبت في كل موقف اعتزازها وتقديرها لدور المرأة السعودية ودفعها للمشاركة الاجتماعية كما الرجل السعودي، إلا أن الدور المهم هنا لرجال الدين ولأفراد المجتمع في نقد الأعراف ومبدأ الاتباع الأعمى لا يمكن إغفاله في مسيرة التطوير.

أضف تعليق